أحدث الأخبار

يكتب,مقالات,المؤشر,عبد الحكم عبد ربه

رئيس التحرير
عبد الحكم عبد ربه
ياسر رزق.. كان رزقًا لمن عمل معه 

ياسر رزق.. كان رزقًا لمن عمل معه 

مُرزقون هم مّنْ قابلوا ياسر رزق في حياته، وعملوا معه، وتتلمذوا على يديه.. مّنْ نهلوا من نبع رقاق لا ينضب، ونهر جارٍ معطاء، لا تحتاج معه لأكثر من أن تمد كفيك وتنهل منه لتروي ظمأك المهني، وتطفئ شوقك المتأجج لأن تكون تلميذًا في محراب الأستاذ.

ما أقسى أن تكون صحفيًا ولم يشُدك قدرك، أو تركلك سنوات «المرمطة الصحفية»؛ لأن تكون تلميذًا بحق لدى أستاذًا أحق بالفخر أن تكون في مدرسته وبين صفوف تلاميذه.. أن تمر من النفق المظلم في تيه المهنة إلى مصباح النور المتوهج في بلاط صاحبة الجلالة.. أن تلازم حامل المسك؛ فتتطيب الكلمات بنسيم الروح النقية.. أن تجلس مع العملاق وأنت مازلت تحبو بالكلمات على الأوراق؛ فتتعلم كيف يكون للمانشيت علامة، وللموضوع رسالة، وللمعلومة قائد وجيوش. لم ألتقِ الأستاذ ياسر رزق ـ رحمة الله عليه ـ إلا مرتين في حياتي، ولا تختزل ذاكرتي مواقف تُحكى كالذين رافقوه وتتلمذوا على يديه أوعملوا معه، فلمسوا جوانب المهني والإنسان المحب لوطنه وكل مّنْ حوله. 

قطعًا، فاتني وغيري الكثير لنتعلمه، لكن عزاءنا أنه أصل الشجرة وإن لم نكن فروعها وأوراقها.. أتذكر سنوات كنت فيها أغطي أخبار مجلس الشعب كمحرر برلماني، وحدثني صديق مسؤول محترم أكثر من مرة وعرضَ عليَّ وألح، أن يكلم صديقه الأستاذ ياسر رزق كي أعمل معه في أخبار اليوم، ورفضت لعدم رغبتي في العمل بأي جريدة قومية، لقناعتي بأنني لن أستطيع أن أكتب ما أريد بحرية أكبر، ولأن المؤسسات الصحفية الخاصة كان ـ ومازال ـ سقف حريتها أعلى، حتى ولو كانت حرية «لها مآرب أخرى» وما أكثرها!.. حاول صديقي المسؤول بمجلس الشعب أكثر من مرة إقناعي بالسماح له بمحادثة ياسر رزق عني، قائلًا: «دا صديقي وحبيبي.. ودي مؤسسة أخبار اليوم بجلالة قدرها.. وفرصة لا تعوض.. وبصراحة عايزين نخلص منك.. ويبقى في حد مسؤول عنك؛ نستطيع الرجوع إليه فيما تكتب.. ونبقى خدمناك وخدمنا نفسنا.. وعملنا حائط صد لتحررك المقلق في الكتابة للجميع»، وفي كل مرة كانت «لأُ» لساني سابقة لـ«رجاحة» عقلي، والحق أقول أنني خسرت الكثير، ليس بعملي في الأخبار؛ ولكن لعدم قبولي عرض الاقتراب من مارد الصحافة وحبة اللؤلؤ المضيئة في عنقود شجرة المهنية والشطارة، وكم من الحماقات أضاعت فُرصًا عظيمة، لا تجود الحياة بمثلها كثيرًا، كما لا تجود بمثل واحد من أولئك العملاقة ممن شُرفت بهم صاحبة الجلالة.

غادر المُعلم والإنسان وصاحب المبادئ والعطاء الزاخر؛ تاركًا المهنة تئن من الوجع وهيَّ تُشيّعُ كل يوم نجمًا جديدًا يسقط من سمائها المضيئة، محدثًا فجوة سوداء من الحزن في القلب، وتلال من الغصة في الحلق، وألم في الروح من وجع الفراق.

رحل مايسترو أخبار اليوم عن عالمنا، لكن ذِكره حاضرًا، وأثره ممتدًا، وأعماله شاهدةً، وكلماته باقية، كان آخرها ما خطّه بيمينه في كتابه «سنوات الخماسين» بعد أن أَبى أن يفارقنا دون أن يحتفل معنا به تاركًا إهداءه إلي شعب مصر العظيم.. «إلى شعب عظيم لا يرضخ لظلم، ولا ينحنى لعاصفة، ولا يركع إلا لرب العباد، إلى أجيال آتية هذه ملامح من قصة آبائكم في زمن عصيب، ولمحات من حكاية وطنكم في حقبة فاصلة، عساها تنير لكم طريقًا، وأنتم تشيدون مجدًا جديدًا، معطرًا بعظمة تاريخ..هذه محاولة لقراءة حاضر، علنا نهتدى بها عند مفارق طرق قد تقابلنا في المستقبل، فلا يمكنك أن تؤرخ لأحداث ماض قريب، بينما هي تنبض وتتحرك وتتفاعل، أو هي مازالت تدمى وتوجع وتؤثر».