أحدث الأخبار

لطالما كانت وزارة الإسكان في عقل ووجدان المصريين رمزا للأمان والملجأ الأخير في مواجهة جنون السوق العقاري وا

الإسكان,يكتب,مقالات,المؤشر,عبد الحكم عبد ربه,جنة,ظلال

رئيس التحرير
عبد الحكم عبد ربه
«ظلال الإسكان».. من حلم المسكن إلى كابوس الأسعار!

«ظلال الإسكان».. من حلم المسكن إلى كابوس الأسعار!

لطالما كانت وزارة الإسكان في عقل ووجدان المصريين رمزًا للأمان، والملجأ الأخير في مواجهة جنون السوق العقاري، والمظلة التي تحمي الحالمين بامتلاك شقة صغيرة تأويهم من قيظ الحياة، كانت الوزارة ـ في عيون محدودي ومتوسطي الدخل ـ ليست مجرد مؤسسة حكومية، بل ملاذا يمكن الوثوق به في رحلة الحصول على شقة، ملاذًا يوازن بين قدراتهم المادية المحدودة وحاجتهم الملحّة إلى مسكن كريم يتناسب مع ظروفهم المعيشية.

لكن يبدو أن المشهد قد تغيّر، وها هو "مشروع ظلال"، الذي أعلنت عنه وزارة الإسكان عبر منصة مصر العقارية، يكشف بما لا يدع مجالًا للشك أن الوزارة لم تعد الملاذ، ولا الحامي، ولا حتى المنظم؛ بل تحوّلت ـ بكل بساطة ـ إلى مطور عقاري ينافس شركات السوق الخاص في صراع شرس على الأرباح، ولو كان الثمن هو سحق أحلام المواطن الذي كان يومًا يراها طريقه الآمن إلى الاستقرار.

(2)

حين تتحول وزارة الإسكان إلى مطور عقاري

لو سألت جوجل أو وزير الإسكان نفسه، أو أي عقاري: هل وزارة الإسكان مطورًا عقاريًا؟!، ستأتي الإجابة: لا.. هي جهة تنظيمية ورقابية تعمل على تنظيم السوق العقاري، وتعمل بالشراكة مع المطورين العقاريين في تنفيذ المشاريع وتقديم التيسيرات والدعم اللازم للقطاع، كما أنها تساهم في دعم برامج الإسكان المختلفة من خلال تشجيع استثمار القطاع الخاص، تسهّل الاستثمار، وتوفر الأراضي، وتضمن التنوع، وتحافظ على أن يكون هناك دائمًا مظلة اجتماعية توفر مساكن مناسبة لمحدودي ومتوسطي الدخل.  

اسأل أي مواطن اليوم، وسيرد بلا تردد: وزارة الإسكان صارت مطورًا عقاريًا، وربما أشد قسوة من بعض شركات القطاع الخاص،  والدليل: الأسعار التي طرحتها مؤخرًا في مشروعاتها الجديدة، والتي كسرت كل الحواجز المنطقية، لتعلن تحولها من «جهة تنظيمية» إلى «لاعب أساسي» في مضمار السوق العقاري بكل ما فيه من جنون مضاربات وسُعار أسعار.

(2)

من «جنة» إلى «ظلال».. رحلة الأسعار من حلم إلى كابوس

المقارنة بين مشروعين فقط من مشروعات وزارة الإسكان؛ تكفي لرسم صورة التحول في أسعار وحدات الوزارة: في مثل هذا الشهر أكتوبر 2024، طرحت وزارة الإسكان آخر وحدات لمشروع «جنة» للإسكان الفاخر في ثلاث مدن: القاهرة الجديدة، أكتوبر، ودمياط الجديدة. كان سعر المتر حينها 15,850 جنيهًا في القاهرة الجديدة، و15,500 جنيهًا في أكتوبر، و12,950 جنيهًا في دمياط الجديدة، سعر الشقة بمساحة 140 مترًا في القاهرة الجديدة لم تتجاوز 2.4 مليون جنيه، مع نظم تقسيط ميسرة تصل إلى عشر سنوات، واليوم، في «مشروع ظلال» ـ الوريث الجديد لمشروع «جنة» ـ تقفز الأرقام قفزة مفزعة: في الشيخ زايد يصل سعر المتر إلى 34,900 جنيهًا، وفي القاهرة الجديدة: 33,250 جنيهًا، وفي أكتوبر: 32,600 جنيهًا، وحتى مدينة العاشر من رمضان، التي جاءت أقل المدن في الأسعار بلغ سعر المتر 26,900 جنيهًا حسب ما تردد في كراسة الشروط المتداولة.

بعملية حسابية بسيطة، تصبح الشقة الـ100 متر في القاهرة الجديدة أكثر من 3.3 مليون جنيه، قبل إضافة نسب التميز، ووديعة الصيانة، والمصاريف الإدارية، وفوائد التمويل، أي أن الفارق بين «جنة» و«ظلال» يزيد على 50% في أقل من عام واحد فقط!

(3)

الحجج الرسمية.. والواقع المؤسف

سيخرج المسؤول ليقول: إن «ظلال» مشروع متميز، به مصاعد حديثة، وتشطيبات فاخرة، ونماذج متنوعة للوحدات (A وB)، وعمارات من ستة طوابق مع رووف، بل وحدات بنتهاوس بمساحات تتجاوز 200 متر، وسيضيف أن هذه المزايا تستحق السعر المرتفع، لكن الأرقام لا تكذب؛ أسعار الحديد، التي طالما كانت الحجة المفضلة، تراجعت عن ذروتها التاريخية التي وصلت 62 ألف جنيه للطن في يناير 2024، واليوم لا يتجاوز السعر 39 ألف جنيها، والأسمنت أيضًا شهد انخفاضًا ملحوظًا، والجنيه نفسه تحسّن أمام الدولار، و كل المؤشرات الاقتصادية تقول: إن تكلفة البناء انخفضت، لا ارتفعت، ومع ذلك، قفزت أسعار الوحدات بهذا الشكل المبالغ فيه.

إذا لم يكن السبب تكلفة البناء، فماذا يكون إذن؟، والإجابة واضحة: وزارة الإسكان لم تعد تفكر كوزارة، بل كـ«مطور عقاري» يبحث عن تعظيم العائد، حتى لو كان ذلك على حساب الهدف الاجتماعي الذي أُنشئت من أجله.

(4)

الوزارة تنافس المطورين

الخطوة لا أراها مفاجئة، فقد بدأت ملامح التحول تظهر منذ سنوات قليلة، مع إطلاق مشروعات مثل «جنة» و«سكن مصر» و«دار مصر»، التي ارتفعت أسعارها تدريجيًا لتقترب من مشروعات القطاع الخاص؛ لكنها حققت طموحات المواطنين ولبت احتياجاتهم لثقة المواطن في الدولة ومشروعاتها، لكن مع «ظلال»، بدا المشهد يختلف تمامًا، الوزارة لم تعد مجرد منافس، بل منافس شرس، يرفع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة، وأصبح المواطن الذي كان يهرب من أسعار القطاع الخاص ليحتمي في مشروعات الدولة، وجد نفسه في مواجهة الأسعار ذاتها وربما أعلى، وهنا يظهر السؤال المؤلم: إذا كانت الوزارة الجهة التي كان من المفترض أن تُعالج تشوهات السوق، قد اختارت أن تكون جزءًا من هذا التشوه، فأين سيذهب المواطن؟

أخطر ما في مشروع «ظلال» ـ من وجهة نظري ـ ليس السعر المرتفع فحسب؛ بل الرسالة التي يرسلها للمجتمع: وزارة الإسكان لم تعد وزارة للملاذ الاجتماعي السكني، بل مؤسسة تجارية تحمل عقلية شركات التطوير، ونفس المشهد يتطابق مع ما يفعله صندوق التنمية الحضرية، الذي رفع شعار «أكبر مطور عقاري في محافظات مصر»، بعد أن كان اسمه «صندوق تطوير العشوائيات»، في عملية تحول كاملة في الهوية: من خدمة المواطن إلى منافسته في السوق.

«ظلال» ليس مجرد مشروع يحمل اسمًا شاعريًا، بل هو انعكاس لظلال ثقيلة ألقتها وزارة الإسكان على أحلام مئات الآلاف من المواطنين، أحلام البسطاء الذين كانوا يظنون أن الوزارة هي الحامي، فإذا بها تتحول إلى خصم ينافس في نفس المضمار.

لقد كان الحلم يومًا بسيطًا: شقة صغيرة بباب، وشرفة تطل على حياة مستقرة؛ لكن الحلم بدأ يتبخر حين يجد المواطن أن الوحدة التي كان يظنها في متناول يده أصبحت بعيدة كبعد السماء عن الأرض.

(5)

الإسكان تدخل المضمار الكريه

بين «جنة» الأمس و«ظلال» اليوم، تغيّر المشهد كليًا، كانت وزارة الإسكان ملاذًا اجتماعيًا، فأصبحت منافسًا شرسًا، كان المواطن يراها بوابة أمان، فإذا بها تتحول إلى جزء من سباق السوق، وبين الحلم البسيط والواقع المعقّد، ضاع الطريق، إنها ليست مجرد شقق جديدة، ولا مجرد مشروع فاخر، إنها قصة عن وزارة فقدت هويتها الاجتماعية، لتصبح مطورًا عقاريًا بكل ما تعنيه الكلمة من مرارة الأرقام وقسوة الحسابات.