أحدث الأخبار

في تصوري يظل نظام أسبقية الحجز الذي اعتمدته وزارة الإسكان في بعض الطروحات العقارية واحدا من أسوأ النظم الت

الإسكان,يكتب,رئيس التحرير,المؤشر,عبد الحكم عبد ربه

رئيس التحرير
عبد الحكم عبد ربه
 «الإسكان» وشريعة الغاب في حجز الشقق والأراضي

«الإسكان» وشريعة الغاب في حجز الشقق والأراضي

في تصوري، يظل نظام أسبقية الحجز الذي اعتمدته وزارة الإسكان في بعض الطروحات العقارية، واحدًا من أسوأ النُظم التي جرى تطبيقها على الإطلاق في مشوار حُلم امتلاك مسكن؛ فهو نظام يقوم على مبدأ: «الغابة»، حيث لا مكان فيه للعدالة ولا تكافؤ الفرص، بل يتحول إلى سباق محموم على سرعة الاتصال بالإنترنت، وإتقان التعامل مع الخوادم والمنصات الإلكترونية، وامتلاك شبكة قوية تسبق الآخرين في لحظات حاسمة نحو بلوغ الهدف.

المشكلة الحقيقية أن مصير آلاف الأسر الطامحة في الحصول على وحدة سكنية أو قطعة أرض يُختزل في دقائق معدودة؛ لحظات لا تكاد تكفي المواطن البسيط لكي يفتح الموقع ويستعرض اللوحات الإلكترونية، حتى يجد أن كل شيء قد حُجز مسبقًا في لمح البصر، هنا، لا تُقاس الكفاءة بالجدية أو الاستحقاق أو القدرة على السداد، بل بمن يملك المهارة التقنية أو «الأداة الأسرع» للوصول أولًا.

هذه الفلسفة في التوزيع تتعارض مع أبسط مبادئ العدالة الاجتماعية،  فكيف لشخص عادي، أو مواطن بسيط أو شاب حديث التخرج أن ينافس شركة أو سمسارًا يمتلك جيشًا من الخبراء التقنيين وشبكات الإنترنت فائقة السرعة؟!، لقد صار النظام أشبه بسباق سيارات؛ من يملك أسرع سيارة يفوز، بغض النظر عن حاجته الفعلية للوحدة السكنية أو الأرض.

على النقيض من ذلك، أجد أن نظام القرعة الذي طالما طُبق في السابق أكثر عدالة وإنصافًا ـ وإن كان هناك أنظمة أفضل ـ صحيح أنه يعتمد على الحظ في جوهره، لكنه يضع الجميع في سلة واحدة، ويمنح كل مواطن فرصة متساوية – بغض النظر عن دخله أو مهاراته التقنية أو سرعة شبكته ـ فالقرعة هنا أشبه بورقة يانصيب عادلة، لا تحابي أحدًا ولا تظلم آخر، وما يزيدها شفافية أنها أصبحت تجرى على مرأى ومسمع الجميع.

وربما يرى البعض أن نظام الأسبقية أكثر «عملية» وأسرع في حسم الطرح، لكن الواقع يقول إنه يفتح الباب واسعًا أمام المضاربات والاحتكار وشبهات الفساد، فبدلًا من أن يحصل المستحقين على وحداتهم بطرق نزيهة، نجد أن هناك فئة محدودة احتكرت أغلب الحجوزات عبر استغلال ثغرات النظام، لتتحول العملية برمتها إلى سوق سوداء: وحدات وأراضٍ تُعاد بيعها بعد دقائق من حجزها بأسعار مضاعفة وإعلانات عن إتمام عمليات الحجز بمقابل مادي كبير.

الأسوأ من ذلك أن المواطن البسيط الذي التزم بالشروط وأعد أوراقه وجهّز مدخراته يجد نفسه خارج اللعبة تمامًا، فقط لأنه لم يضغط على زر «تأكيد الحجز» في اللحظة المناسبة، أو لأن الإنترنت تعثر لدقائق، فهل هذا منطق يُدار به ملف السكن الذي يُفترض أنه أحد أهم حقوق المواطن وركيزة العدالة الاجتماعية؟.

إن العدالة ليست رفاهية إدارية، بل هي حجر الزاوية في أي مشروع تنموي، ونظام الأسبقية يهدم هذه العدالة من جذورها، لأنه يضع حاجزًا غير معلن بين «القادر رقميًا» و«المستحق فعليًا»؛ في المقابل، القرعة تحافظ على شرف المنافسة، وتمنح كل مواطن شعورًا بأن حظه مساوٍ لحظوظ الآخرين، حتى لو لم يربح.

وأرى أن الحل الأمثل يكمن في الجمع بين الشفافية والعدالة والتيسير: بأن يكون هناك نظام تسجيل مسبق يضمن وصول جميع المستحقين إلى مرحلة متكافئة، ثم تُجرى قرعة علنية أو إلكترونية بإشراف كامل من جهات رقابية، مع نشر النتائج بوضوح، بهذه الطريقة يُغلق الباب أمام المافيا، ويُطمأن المواطن على أن فرصته محفوظة.

لقد أثبتت التجربة أن الحلول التقنية وحدها ليست كافية لتحقيق العدالة، فالمسألة في جوهرها ليست مجرد «توزيع وحدات» بقدر ما هي ترسيخ لقيم المساواة والحق في السكن، ومتى ما شعر المواطن أن النظام عادل، فإنه حتى لو لم يفز في القرعة، سيظل على ثقة بأن الدولة لم تفرّق بينه وبين غيره.