أحدث الأخبار

لا شئ يحدث في العالم اعتباطا.. الحروب.. الكوارث.. الأمراض.. القتل.. التشريد.. البكاء والرقص على جثث الإنسانية

يكتب,عبد الحكم عبد ربه,كييف,الحرب الروسية الأوكرانية,روسيا تغزو أوكرانيا,الصراع الروسي

رئيس التحرير
عبد الحكم عبد ربه
الحرب الروسية الأوكرانية.. «العلبة فيها فيل»

الحرب الروسية الأوكرانية.. «العلبة فيها فيل»

لا شئ يحدث في العالم اعتباطًا.. الحروب.. الكوارث.. الأمراض.. القتل.. التشريد.. البكاء والرقص على جثث الإنسانية واللعب مع الكبار.. اليوم ومن آلاف السنين كل الأحداث الدامية  لها أسباب وعِلل وأهداف وطرق تختلف مشاربها وتتشابه مآربها.

عام 1959 أنتجت السينما المصرية  فيلم «سر طاقية الإخفاء»، وأفرز لنا العمل السينمائي نظرية «العُلبة والفيل»؛ وهي نظرية قائمة على مبدأ القوة والقدرة على إقناع الآخرين بأمور يعترف بها الضعيف ويقرها القوي ويشهد عليها جمهور من الناس يُدين المهزوم دون أن يعرف حقيقة ما دار في لعبة «العلبة والفيل»، هل هي حقًا فارغة كما تبدو للعيان؟، أم أن بداخلها فيل وغابة من الوحوش؟!.

(1)

الحرب الدائرة الآن بين روسيا وأوكرانيا، هي صراع في جوهره بين روسيا وحلفائها من جهة، وأمريكا وحلفائها من جهة أخرى وما يمثله كل حلف من خطر على الآخر؛ فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ـ وريث عرش الاتحاد السوفيتي ـ يحاول استعادة مجد «ستالين» ومكانة الاتحاد وإعادة رفع العلم الأحمر بنجمته وشعار المطرقة والمنجل الذي سقط منذ 30 عامًا، ليُرفع مجددًا تحت شعار النسر الذهبي ذو الرأسين، والمضي قدمًا نحو انهاء خطر تمركز أمريكا وحلف الناتو في دول الاتحاد السوفيتي السابق، في الوقت الذي تسعى فيه أمريكا ومعسكر الاتحاد الأوروبي للتأكد من نزع مخالب النسر الروسي ووضعه في قفص حديدي حتى لا يحلق بعيدًا في سماء النفوذ والقوة وحده ويعيد تأسيس سطوة الاتحاد السوفيتي؛ وهو رهان الحرب الآن إذا ما استطاعت روسيا الصمود وكسب المعركة الأوروبية لصالحها في أولى جولاتها بغزو أوكرانيا.

طرفا الصراع «الروسي ـ الأوكراني» رفعا على «العُلبة» شعار «إنقاذ الإنسانية من الإبادة» متجاهلين أن الحروب والاختلافات السياسية هي وسيلة محو البشرية؛ فروسيا تُعلن: أنها تريد اسقاط حكومة «الأوكروـ نازي» التي مارست جرائم مروعة ضد شعب دونباس طيلة ثماني سنوات ماضية، وأوكرانيا تتهم بوتين برغبته في احتلال البلاد وقتل وتشريد الآلاف والاعتداء على سيادة الدولة.. والحقيقة أن الصراع داخل العُلبة هو صراعٌ على «فيل الطاقة» مصدر القوة المتحكمة في الاقتصاد العالمي ومن ثمَ التحكم السياسي وفرض الكلمة والرأى.

لمن يذكرون، عقب انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 وتفكك دوله إلى 15 دولة، احتفظت روسيا بأكبر احتياطات للغاز في العالم، وورثت أوكرانيا أكبر شبكة خطوط أنابيب نقل الغاز، بعدها تمدد الخلاف بين الدولتين على هذا «الإرث السوفيتي»، فسعت روسيا لإنشاء خطوط لنقل الغاز والبترول رغبة لتقليل الاعتماد على خطوط أوكرانيا في نقل الغاز إلى دول أوروبا، عبر مد خطوط جديدة لا تمر بأوكرانيا، ووجدت أوكرانيا أن مصالحها يمكن أن تتحقق لو دخلت تحت عباءة حلف الناتو والحماية الأمريكية وشكلت جبهة ضد جارتها روسيا التي فقدت سيطرة الكرملين على الحكومة الأوكرانية  والرئيس زيلنيسكي المدعوم من أمريكا والاتحاد الأوروبي.

(2)

اعتمدت روسيا على احتكار منظومة خطوط الأنابيب لتصدير النفط والغاز إلى الأسواق الخارجية، ولإحكام قبضتها أكثر على الدول المنتجة للنفط والغاز في آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين الذي يعد أكبر مسطح مائي مغلق في العالم ومن المناطق الغنية بالنفط والغاز وأقدمها ويمد الطاقة العالمية بما يقدر بـ48 مليار برميل من النفط الخام وحوالي 5 تريليونات قدم مكعب من الغاز ومن الدول المشاطئة له «روسيا، إيران، أذريبجان، تركمانستان، كازاخستان»، وتمتلك كازخستان الحصة الأكبر من النفط بينما تملك روسيا الحصة الأكبر من الغاز بنحو 3 تريليونات قدم مكعب.. بعد تفكك الاتحاد السوفيتي بدأ الصراع بين دوله وتكونت الجبهات ممثلة في جبهتين: الأولى تضم «روسيا وإيران وتركمستان»، والجبهة الثانية تضم أذربيجان وكازاخستان.

 اتفق رؤساء روسيا وكازاخستان وتركمانستان في 2007 على مشروعين لبناء أنبوبي نقل غاز، ينطلق الأول من الحقول الشرقية لتركمانستان، والثاني موازٍ له ينقل الغاز عبر كازاخستان على طول بحر قزوين نحو روسيا لضمان نقل 20 مليار متر مكعب سنويًا بدءًا من عام 2012، ويدخلان في إطار توسيع أنبوب «بريكاسبيسكي» الذي يربط تركمانستان وكازاخستان بروسيا بهدف إفشال مخطط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لبناء أنبوب غاز عابر لقزوين من أجل نقل الغاز التركماني والكازاخي إلى أنبوب نابوكو الأمريكي.

(3)

واشنطن تعلم مدى أهمية منطقة بحر قزوين فهي منطقة تضم منافِسَين إقليميَّين للمشروعات الأمريكية هما «روسيا وإيران»؛ لذا تعارض الجهود الروسية لتحقيق نفوذ في القوقاز وآسيا الوسطى وتسعى لزيادة إمدادات الطاقة من آسيا الوسطى للمستهلكين في مختلف الأسواق وعلى رأسهم دول الاتحاد الأوروبي، وحققت أمريكا نجاحًا مع الانتهاء من خط أنابيب نفط باكو العابر لأذربيجان وجورجيا وتركيا والذي ينقل نفط أذربيجان إلى ميناء جيهان التركي، وبدأ عمله عام 2005، وكان خط باكو أول خط أنابيب ينقل نفط قزوين دون الاعتماد على منظومة الأنابيب التي تسيطر عليها روسيا.

(4)

التنين الصيني لم يقف موقف المتفرج ويُقر بأن العلبة فيها فيل طاقة فقط؛ بل دخل المنافسة والصراع وأقام علاقات اقتصادية ودبلوماسية مع دول بحر قزوين كبديل للاحتكار الروسي ولمنافسة النفوذ الأمريكي، ولتأمين إمداداته النفطية، وتنويع مصادر الطاقة بعيدًا عن الشرق الأوسط، فقامت الصين بعدة مشاريع أنابيب لنقل النفط والغاز من كازاخستان نحو شينجيانغ الصينية ووصل إلى طاقته القصوى عام 2011، إلى جانب محادثات سابقة مع كازاخستان لاستكمال أشغال بناء أنبوب نقل الغاز الموازي لأنبوب نقل النفط وهو أنبوب نقل غاز «بينو- شيمكانت» الذي يضخ 10 مليارات قدم مكعب من الغاز الكازاخستاني للصين سنويًا.

(5)

روسيا توفر حوالي ثلث استهلاك الغاز الطبيعي في أوروبا، وهيَّ ملجأ الاتحاد الأوروبي لتوفير أكثر من ربع وارداته من النفط الخام، وهو ما جعل روسيا أكبر مصدر منفرد للطاقة في الاتحاد الأوروبي، وهنا برزت خلفية الأهداف الأمنية السياسية المتمركزة على أهداف اقتصادية مرتبطة بشكل أساسي بتصدير الغاز الروسي، حيث سعت أمريكا لتقليل اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، بمحاولة وقف مشروع خط أنابيب (نورد ستريم 2)، سلاحها الآن بعد بدء الحرب على أوكرانيا.  استخدمت روسيا سلاح الغاز في مناوشات نزاع السنوات الماضية مع أوكرانيا حول رسوم العبور، وتم حظر إمدادات الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، وأدى الحصار إلى إغلاق مصانع وقطع إمدادات الكهرباء وأظلمت بعض دول أوروبا الشرقية لأيام متواصلة.

(6)

«نورد ستريم2» كان كلمة السر في صراع علبة «فيل الطاقة»، فحكومات أوروبا الغربية والشرقية رأت أن خط الأنابيب الجديد سيزيد النفوذ السياسي لروسيا عليها، وستخسر دول أوروبا الشرقية مثل بولندا وأوكرانيا مليارات الدولارات من رسوم العبور السنوية وإمدادات الغاز المباشرة، وبالفعل عند افتتاح «نورد ستريم 1» خسرت أوكرانيا سنويًا بما يقدر بـ720 مليون دولار أمريكي كانت تجنيها من عبور الغاز الروسي.

(7)

الصراع المحتدم بين وكلاء أوكرانيا وروسيا والذي بدأ في شكل غلافه السياسي بأزمة إقليم دونباس، سيعيد تشكيل النظام الدولي وخريطة تحالفات القوى إذا ما انضمت الصين إلى محور روسيا ورأت أن النظام الدولي لا يجب أن تهيمن عليه أمريكا وحدها، ودفعت الأحداث إيران إلى الدخول في تحالفات مع روسيا وخاصة أنها تواجه العقوبات الأمريكية من قبل، كل هذا من الممكن حدوثة إذا لم يقطع حلف الناتو الطريق على بعض القوى التي من الممكن أن تنضم لروسيا وترجح كفتها في الحصار.