أحدث الأخبار

الموسيقى الخليلية المطربة والمحسنات البديعية المعجبة والبناء الفني الفريد لقصائد الديوان لكن المقدمة طالت أكثر

الشعر الناقدى,شعبان عبد الجيِّد,الشاعرة نورا حلمي,الديوان المحمديِّ الثالث

رئيس التحرير
عبد الحكم عبد ربه

تأملات نقدية في «الديوان المحمديِّ الثالث» للشاعرة نورا حلمي

المؤشر

 

 

من بين ما أقرؤه من الشعرِ الذي تدفع به المطابعُ هذه الأيام، ما تبدعُه الدكتورة نورا حلمي في المقدمة، لا لتنوعِه وثرائه الفنيِّ فحسب، بل لخصوصيته وتميزه أيضًا؛ فهي تمثلَ حالةً خاصةً في عالَم الشعر الديني، أخرجت من قبلُ ستة دواوينَ، مدهشة التعبير والتصوير، كان من بينها اثنان في المديح النبوي، وهذا الذي بين يديك ثالثُهما.

وتعد واحدةً مِن أبرز مَن نظموا الشعر الإسلامي الذي يجمع بين صدق المناداة وعمق المناجاة، بعيدًا عن النظم الشكلي المجرَّد الذي لا يزيد عن كونه كلامًا موزونًا ومقفًّى، دون أن يلامِسَ في النفس شعورًا، أو يثير في العقل خاطرًا. 

والسطورُ التالية محاولةٌ نقدية بسيطةٌ لتمهيد الطريق إلى عالمِها الفنيِّ الشائقِ الرائقِ في ديوانِها المحمديِّ الثالث.  

    التاريخُ البشريُّ، كما يقول الأستاذ الرافعيُّ في كتاب (وحي القلَم)، لا يَعرفُ غيرَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم رجلًا أفرغَ اللهُ وجودَه في الوجودِ الإنسانيِّ كلِّه... فإذا الإنسانية تتحولُ به وتنمو، وإذا هو وجودٌ سارٍ فيها؛ فما تبرحُ هذه الإنسانيةُ تنمو به وتتحول.  

    كان المعنى الآدميُّ في هذه الإنسانية كأنما وهن من طول الدهر عليه، يتحيفه ويمحوه ويتعاوره بالشر والمنكر، فابتعث الله تاريخ العقل بآدمَ جديد، بدأت به الدنيا في تطورها الأعلى من حيث يرتفع الإنسانُ على ذاته، كما بدأت من حيث يوجدُ الإنسانُ في ذاته؛ فكانت الإنسانية دهرَها بين اثنين: أحدهما فتح لها طريق المجيء من الجنة، والثاني فتح لها طريق العودة إليها، كان في آدم سِرُّ وجود الإنسانية، وكان في محمدٍ سِرُّ بقائها. إنه النسخة الفريدة في عالم المخلوقات، والوجود المتميز في دنيا الكائنات، المثل الكامل، والأسوة الحسنة؛ لا أحدَ يدانيه في علوِّ شأنه، ولا مخلوق يطاوله في مقامه ومكارمه.

• المدائحُ النبوية:

    ومنذ ما يقرُبُ من ألف وخمسمائة عام، وإلى يوم الناسِ هذا، ولا تزال الألسنة الصادقة والقلوب العاشقة تلهج بذكر النبي الخاتم والثناء عليه، ولا يزال الشعراء المسلمون في كل لغات هذه الأمة ينظمون القصائد، قصارًا وطوالًا، في مدح رسول الإنسانية ومخرجها من الظلمات إلى النور، فيما يُعرَفُ بين الدارسين والقارئين بالمدائح النبوية، وهو فنٌّ من القول ولون من الشعر لم تعرفه آدابُ أية أمةٍ أخرى على اختلاف لغاتها وامتداد تاريخها.

    والمدائحُ النبوية كما يعرِّفُها الدكتور زكي مبارك في كتابه عنها، فنٌّ من فنون الشعر التي أذاعها التصوف، فهي لونٌ من التعبير عن العواطف الدينية، وبابٌ من أبواب الأدب الرفيع؛ لأنها لا تصدر إلا عن قلوبٍ مفعَمةٍ بالصدق والإخلاص.

    وأكثرُ المدائح النبوية، كما هو معلومٌ بالضرورة، قيل بعد وفاة الرسول، ومعروفٌ أن ما يقال بعد الوفاةِ يُسمَّى رثاءً، ولكنه في الرسولِ يسمَّى مدحًا، كأن القوم قد انتبهوا إلى أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، موصولُ الحياة، وأنهم يخاطبونه كما يُخاطَبُ الأحياء. والمادحُ هنا غير الراثي هناك؛ فالرثاءُ يُقصَدُ به إعلان التحزن والتفجع، على حين لا يراد بالمدائح النبوية إلا التقرب إلى الله بنشر محاسن الدين والثناء على شمائل الرسول.

    ولا سبيل هنا إلى حصر ما مُدح به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الشعر،ولا إلى عدِّ ما كُتِبَ عن المدائح النبوية من المؤلفات، ومن يدري، ففي الوقت الذي تطالع فيه هذه السطور المتواضعة قد يكون هناك آلافٌ من الشعراء في مشارق الأرض ومغاربها يدبِّجون في مديح نبيهم ما لا يُحصَى كثرةً من القصائدِ والمقطوعات. وأذكر أنني طالعت منذ سنواتٍ بعيدةٍ كتابًا ضخمًا يقع في عشرين مجلَّدًا، يحمل عنوان "موسوعة المدائح النبوية" من تأليف الحاج عبد القادر الشيخ علي أبوالمكارم، حفظت ما أنتجته قرائح الشعراء، وما تفتقت عنه مواهب الأدباء في مدح الرسول الأعظم ، والإشادة بمكارم أخلاقه وروائع سيرته وحياته. وكنت في ذهولٍ من كثرة المدائح النبوية وتنوعها، وفي عجب من تسابق الشعراء وتباريهم في هذا الميدان الواسع العظيم، وكنت أتساءل: ما الذي بقي للشعراء ليقولوه، ولم يكد الأولُ يترك للآخِر شيئًا؟ وهو ما وجدت إجابته المقنعة حين اتصلت بما أبدعته الدكتورة نورا حلمي قارئًا ودارسًا.

***

• شاعرةٌ متميِّزة:   

     حين انتهت الدكتورة نورا حلمي من نظم قصائد "الديوان المحمدي الثاني"، منذ ما يقرب من عامٍ وبعضِ عام، كان من حُسن حظِّي أن أكتبَ عنه كلمةً موجزة، ذكرت فيها أنني أشفق عليها مما يقع فيه الذين يُكثرون من النظم في موضوعٍ واحد؛ حيث يتورطون في فخِّ المكرور من الكلام والمعاد من اللفظ، فلا يجدون طريفًا يقدمونه ولا جديدًا يكتبون عنه. كنتُ أظن أن الإجهادَ الذهني قد أرهقها وأتعبَ مخيِّلَتَها، وأنها استنفدت في ديوانها المحمديِّ الأول كلَّ طاقتها الإبداعية والتصويرية فيما يتصل بهذا الموضوع، وهو ما يحدث كثيرًا لمن يعزفون على وترٍ واحد، حتى لو تعددت نغماتهم وتنوعت ألحانُهم، ولكنني تبينت أنني كنت مبالغًا في إشفاقي، ومسرفًا في ظني. 

    وحين أُتِيحَ لي أن أطالعَ ديوانَها المحمديَّ الثالثَ الذي بين يديك الآن، تذكرت ما قد كان، وقلت في نفسي إن الدكتورة نورا حلمي تصرُّ على التحدي والمغامرة، وليس في كل مرةٍ تسلم الجرة كما يقولون، ولا بدَّ أنها ستقع حتمًا في مأزق الإعادة والتكرار، وأنها لن تبتكرَ طريفًا أو تأتيَ بجديد، ولكنني قرَّرت، قبل أن أبالغ في إشفاقي أو أسرف في ظنوني، أن أقرأ الديوان قراءةً متأنية، تتأملُ وتفكر قبل أن تحكمَ وتقدِّر، ووجدتني مأخوذًا، أو كالمأخوذ، وأنا انتقل من قصيدةٍ إلى أخري، وأحسست أنني في روضة من الفن البديع المُلهَم، أتفيأُ ظلالَها الوارفة، وأتنسَّم عبيرَها الفوَّاح، ولم أكن في حاجةٍ إلى تفكيرٍ طويلٍ لأعلل إحساسي وأفسره، وأدركت أن وراءه سببين كبيرين، هما: عظمة النبي وصدق الشاعرة.

    كان أول سؤالٍ طاف بذهني وأنا أقلِّب النظر في هذا الديوان هو: لماذا هذا الإصرارُ من الشاعرة على أن تنظم جُلَّ قصائدها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولم تتركني الشاعرة حائرًا؛ فلقد أجابت عن هذا السؤال حين قالت في قصيدتها "مقام محمد":

لو ان امتداحي فيك يكفي لما غدا بسؤْلي الجوى عما ساكتبه غدا

فقد قلَّ في أمسي الذي كان فابتدا لحب المزيدِ القلبُ يبسُطُ لي يدا

لأنك أهـــــلٌ والـــمدائحُ لا تَــفي وبتَّ ـ فـداك الخلُ ـ للخلقِ سيِّدا

    وأجابت أيضًا حين قالت في قصيدة "هو الحُسنُ فينا":

يقولون وصفُ المصطفى الصدقُ والوفا فقلتُ ومهما قِيل واللهِ ما كفَى 

• بدائعُ الصلوات:

    ولاحظت أن كل قصائد هذا الديوان، ما عدا اثنتين أو ثلاثًا، تنتهي بالصلاة على النبي، أو تبدأ بها، أو تكون كلها صلاةً عليه وتسليمًا، وكأن لسانَ حالِ الشاعرة يقول:

صلى عليـــهِ اللهُ في قرآنِهِ وعليه بعد صلاتِهِ صلَواتي

    ومن العجيب أنها جعلت كلَّ صلاةٍ بصيغة مختلفة، تعبيرًا وتصويرًا، لا لتناسب الوزن والقافية فحسب، بل لتوافق الحالة الروحية والجو العام للقصيدة، وكأنها قصدت من وراء ذلك أيضًا أن تعطر كلامها بالصلاة على النبي، وتدعو القارئ ليستجيب معها إلى قول المولى عزَّ وجلَّ في سورة الأحزاب: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا". وإليك هذه الأبيات التي تؤكد ذلك وتدلُّ عليه:

• فيا ربِّ صَـــــــــــلِّ وســـــــــــلِّمْ على حبيبِكَ ما صَــــــاب أرضًا مطر

• صـــــلاةُ ربي وتسلـــــــيمٌ برحـــــمتِهِ على ابنِ آمنةٍ مــا فاضَت السُّحبُ

• صـــــــلَّى وســـلَّم رب الحُسنِ لي أبدًا عليك يا خيرَ مَــن بالحُسنِ يشتهرُ

• صــــــلاةُ اللهِ فــي الأزمـــــانِ تسرِي على بَـــــــــــدرِ البُـدورِ كما تمنَّى

• مــولاي صلِّ على المنصورِ عسكرُه ما دُكّ للخَصم حِـصنٌ منك بالعلَمِ

• صـــــــــلى على المختارِ ربٌّ ناصرٌ بالسرِّ في الصلوات تستعطي اليدُ

• عليه صـــــلاة الله ما حــــورب العِدا وللمؤمنين اللهُ مــــــــولى وراحمُ

• وصلِّ على المختارِ يا رب ما سرى لُجَينٌ بضوءٍ كي يُـحـاكيه منظرا

• مولاي صلِّ عليه ما اصطبر الورى أو ذاق دمعًا بالتـــوجُّــــع مضجَعُ

• فصـــــــــــلِّ على الهادي وسلِّم لأنه من النفس أولَــى، والحــبائبُ تُكثِرُ

• مولاي صَــلِّ على الهادي وصحبته ما أزهــــقَ الحــــقُّ بُهتانًا بوقعتِــهِ 

• استلهامُ القرآنِ والسنة:    

    ولم يكن القرآن والسنَّة غائبين عن الشاعرة، وسوف يلفت انتباه القارئ هذا الحضور المقدس للنص القرآني، لفظًا أو معنى، وهو ما يسميه بعض الدارسين بتوظيف الثراث الديني، وأراه أنا استلهامًا يضيء النص بنور الألوهية أو النبوة، ومن أمثلته في الديوان ما جاء في أول قصائده: " سراجٌ منيرٌ كوجه القمر"، وهو يذكرنا بقول الله عزَّ وجل: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا"، ومنه قولها: "وما رمَوا إنما سهمُ الإله رُمي"، وهو من قوله جلَّ شأنُه: "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ"، وقولها: "لولاه ما أعجب الزرَّاع منبته"، وهو من قوله تعالى: "كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ"، والكفَّار هنا هم الزرَّاع، ومنها قولها: "ولا تحسبنَّ اللهَ تَغفُلُ عينُهُ"، وهو من قوله عز من قائل: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ"، وقولها: 

بالمؤمنيـــن اللهُ يشهدُ أنه رءوفٌ رحيمٌ والورى شهداء

وهو من قوله تعالى:" لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ"، وكذلك قولها:

أتيتَ من الزلَّاتِ إدًّا وفِـــــــــريةً تَهدُّ الرواسي من عظيم الجنايةِ

هو من قوله عزَّ وجل: "لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا". وقولها:

إن يَمْسَسِ القَـــــرحُ القلوبَ دواؤُها ذِكـــــرُ النبيِّ به تَطيبُ وتنفَعُ

ومن استلهام الأحاديث النبوية الشريفة قولها: "الرحمةُ المهداةُ كالنور والمطر"، مستوحَى من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا رحمةٌ مهداة"، وقولها:

وعليــــه من صلّى بواحــــــدة له يسعى بثِنتين الجَزا وثمانية

هو صياغة شعرية طريفة لما نُسِبَ إلى النبي من أنه قال: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"، وقولها:

وسَــــلْ جريرًا عن الهادي وبسمتِهِ ففي الصحيحين جاء القولُ كالدِّيَمِ

     (ولا رآني) الحبـبُ المصـطفى أبدًا (إلا تبسَّمَ) حسبـــي ذاكَ مـــن نغَمِ

مأخوذٌ مما رُوي في صحيح الترمذي عن الصحابي الجليل جرير بن عبد الله أنه قال: "ما حَجَبَنِي النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُنْذُ أسْلَمْتُ، ولَا رَآنِي إلَّا تَبَسَّمَ في وجْهِي". وقولُها: "على قدر دين المرءِ بالضُّرِّ يُبتَلَى"، مستوحى من قول النبي: "يُبتلَى الرَّجلُ على حسْبِ دِينِه ، فإن كان دِينُه صُلبًا اشتدَّ بلاؤُه ، وإن كان في دِينِه رِقَّةٌ ابتلاه اللهُ على حسْبِ دِينِه فما يبرَحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يمشيَ على الأرضِ وما عليه خطيئةٌ". وتأتي قصيدة "جبل الأشواق" لتفصِّلَ في مجملها قول النبي صلوات ربي وتسليماته عليه: "هذا جبلٌ يحبُّنا ونحبه"، وذكرت ذلك مباشرةً في قولها:

يا أُحْـــــدُ أيقنتُ أن الحبَّ تحملُه غَضًّا لأحمدَ لا يَفنَى ولم يَزَلِ

أمَّا قولُها:

لــــــمَّا رأكَ حبيبُ الله مُــــرتجفًا من رهبةِ الوجدِ قال اثبُت فلم تَمِلِ

فهو يستند على ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ من قوله: "صعد النّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أُحُد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجَفَ بهم، فضربه برِجله قال: اثبت أُحُد، فما عليك إلّا نبيّ، أو صدّيق، أو شهيدان".

كما نجد استحضارًا واضحًا للموروث الشعري في قولها: 

وأظلَّ يــــــومَ الفتحِ مكّةَ عَفوُهُ والعَفوُ عند جَنابِهِ مأمولُ

وهو من قول كعب بن زهير في قصيدته "بانت سعاد":

أُنبِئتُ أَنَّ رَســــولَ اللَهِ أَوعَدَني وَالعَفْوُ عِندَ رَسولِ اللَهِ مَأمولُ

    ولا أعتقد أن الشاعرة قد تكلفت هذا التوظيفَ أو قصدت إليه قصدًا؛ وأغلب ظني أنها فعلت ذلك عفوَ الخاطر، معتمدةً على مخزونها القرائي القريب أو البعيد، وبخاصة ما يتصل منه بالقرآن الكريم والحديث النبوي، فهي حافظة لكتاب الله بقراءاته المتعددة، ومحفِّظةٌ له أيضًا، وهو ما يفسر لنا تشبُّعَها الروحانيَّ بأجواء الوحي والنبوة، وشغفَها الشديد بمنظومات المدائح المحمدية.

• صُوَرٌ مُدهِشَة:

    ولا يَعني هذا أن عملَ الفنِّ والتخييل في هذا الديوان كان هامشيًّا أو ثانويًّا؛ فالشاعرة ابتدعت ألوانًا طريفةً من التصوير وأشكالًا مدهشةً من المجاز، جعلت من الإيقاع المنتظم والفكرة المتسقة جمالًا جاذبًا ونسقًا خلَّابًا، وساهمت في تقريبِ الفكرة من خلال التعبيرات الاستعارية المعجبة الممتعة، وليس من وَكدي هنا أن أفصل القول فيها، ويكفي القارئ الكريم أن أقدم له أكثر من عشرين مثالًا من هذا البيان النادر الذي يشيع في أكثر قصائد هذا الديوان: "وبالنور موضونةٌ رُوحُه"، "منها يفيض له شوقي وينسكبُ"، "باح الغمامُ بسر الحُسن"، "له الخفاق بالأشواقِ حَنَّا"، "تزول بظله الأكدار عنَّا"، "هوادي هَديِه تَهدي هدانا"، "تخيط الدهشة الأجفان"، "داسوا بعز الجهادِ الذلَّ في لُثُمِ"، "وقولُه السحْبُ يَروي الغيثَ بالدِّيَمِ"، "والطبعُ صدِّيقٌ يغيثُ ويُنجِدُ"، "من صولجان المسكِ أملحُ ريشتي"، "كالروض ممطورٌ فؤادي باسْمِهِ.. بمسيل رحمتهِ وعنها يُنشِدُ"، "فيها تشيخُ القدس لكن تولَدُ"، "ويلثم أجرُ الصابرين فؤادَهم"، "لها يضع الفخرُ الخدودَ ويُنسَبُ"، "وشُلَّت يدُ المحتلِّ وحشية الدِّما"، "توسدت المسكَ البدورُ بأرضِهِ"، "قواصف عدوان البغاة مآذنٌ"، "محمدُ مِسكيُّ الفؤادِ جبينُه.. جرى البدرُ والإشراقُ فيه فأزهرا"، "وفتَّت رُوحي ما أذاك.. ورتَّقَها شوقٌ إليك"، "وترقُّ نبضات القلوبِ لذكرِهِ"، "توارت محاريبُ السعادة بعده.. بسور الهدى"، "أغرُّ ترفلُ في الأزمانِ دعوتُه".  

    هل قلت كل ما عندي؟ لا أعتقد. هل بالغت في القول أو أسرفت في الثناء؟ لا أظن. هل هناك ملاحظاتٌ أخرى كان يمكن أن أثبتها؟ بالتأكيد نعم. ولقد كنت أودُّ أن أتوقف، ولو قليلًا، عند الموسيقى الخليلية المطربة والمحسنات البديعية المعجبة والبناء الفني الفريد لقصائد الديوان، لكن المقدمة طالت أكثر مما قدَّرتُ لها، وفيما قلته ما قد يعين القارئ ويضيء له الطريق إلى المتعة والفهم؛ وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق كما كان يُقال، والناقد في النهاية لا يقولُ كلَّ شيءٍ، وقد يصيبُ وقد يخطئ، والكلمةُ الأخيرةُ في أيَّةِ قضية من القضايا لم يقلها أحدٌ بعد.. وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.