أحدث الأخبار

جلس الأستاذ عليش وسط الرفقاء على مقهى العيش الحاف في منطقة الحلمية ذلك الحي الذي كان عريقا في العصر الملكي

يكتب,مقالات,رئيس التحرير,المؤشر,عبد الحكم عبد ربه,موقع المؤشر,العلبة فيها فيل

رئيس التحرير
عبد الحكم عبد ربه
عليش المُتعايش

عليش المُتعايش

جلس الأستاذ عليش وسط الرفقاء على مقهى «العيش الحاف» في منطقة الحلمية ذلك الحي الذي كان عريقًا في العصر الملكي؛ يروي لهم نظريته في التعايش.

«عليش» نوع فريد من البشر، يتعايش مع كل ما هو سيئ بكل بساطة.. هادئ، غير مُتكلف، لا يعاني من أي أمراض قديمة ولا عصرية، فلم يختبر سُكره من قبل في معامل المختبر ولا البرج، ولا حتى في كوب الشاي ـ مشروبه المفضل ـ الذي يحتسيه بصفة مستمرة على مقهى «العيش الحاف».. يطلب الشاي وحسب سُكره يشربه، إذا كان السكر قليلًا في الشاي؛ أقنع نفسه بأن السكر زيادة، وإذا جاء السكر مظبوط، فشكرًا لوزير تموين المقهى الذي أنعم عليه بهذه الرفاهية غير المعتادة.

إذا ذهب «المُتعايش عليش» إلى مطعم من أجل وجبة غداء وأكل قبل أن يسأل صاحب المطعم عن سعر الوجبة وتفاجأ بعدها بسعر غير متوقع؛ قال لنفسه: نعتبرها وجبة غداء وعشاء، أو أنني عزمت صديق معي ودفعت الحساب، وعند الفكهاني يظل متوجسًا رغم أنه قرأ لافتة سعر كيلو الفاكهة، لأنه يعلم أنه كما في القضاة ثلاثة، «قاضيان في الجنة وقاض في النار»، فكذلك الفكهانية وـ الميزان واحد ـ، ولأنه قرر أن يقوم بعمل لا تجيده غير النساء.. يشتري فاكهته وقد يلقي بها لعطبها أو لسوء مذاقها مقنعًا نفسه بأنه أكلها واستمتع بما زرعه صديقه الفلاح في أرض بلاده الطيبة. داخل منزله تحتار زوجته معه، لا أكلات مُعينة يطلبها ـ وإن كان له ما يشتهيه ـ، فما تصنعه حرمه المصون يأكله «هنيئًا مريئًا»، مع الشكر والامتنان، ولأن زوجته على شاكلته فقد تعايشت مع تعايشه بنفس راضية مُطمئنة، حتى يسير بهما قطار الحياة. 

لا يقف هذا المُتعايش قليلًا ولا كثيرًا أمام قانون المادة الذي يحدد العلاقة بين البشر، ويرى أن المادة ضد قانون التعايش، وأن المصلحة آفة تُفسد الفطرة الإنسانية؛ لذلك يُحب ويكره دون مصلحة، وينسحب من العلاقات البشرية بكل هدوء دون ضجيج وبلا معارك فلا يبقي على علاقة فسدت من أجل مصلحة، ومبدأه: لقد دخلت علاقاتي مع الناس بكل هدوء وبلا تخطيط؛ فلماذا أنسحب مُسخنًا الجراح في جسد من أفارقه؟!، فالأرواح مثقلة بما فيها، منها من تعايشت مع ثقلها، ومنها من غرست في وحل عبئها.

بورصة غلاء الأسعار في عقل ونظر عليش مؤشرها ثابت، فقانونه الذي يسير عليه وضع حدًا فاصلًا بين الواقع والجنون، وبين الأماني والممكن.. في مدرسته يُعلم تلاميذه ما يمليه عليه ضميره وأخلاق رسالته، لا شئ يحني هامته أو يهزم إرادته فمن أجلهما تعايش مع كل ما هو سيئ.

وعلى الرغم من أن فاتورة تعايش قانون عليش مُكلفة جدًا، إلا أن بنود القانون الذي أبرمه مع نفسه؛ حافظت على نظرته للحياة المبنية على قاعدة «إذا لم تملك الإرادة لتغيير واقعك السيئ فتعايش مع ما تصنعه بيديك، فلم يعد هناك مّنْ يُعلمك كيف تصطاد سمكة أو يعطيك ثمن شرائها، فحضرة العمدة مصري خريج مدارس أمريكية لا يعطي شيئًا بلا ثمن ولا يهب الحياة في قريته بالمجان».

مرات كثيرة يذهب فيها عليش لشراء احتياجاته، ويلمس بعينيه وأذنيه كيف صار الجشع قانونًا للصانع والتاجر تحت وطأة الغلاء وارتفاع سعر الشبح الأخضر المدعو بـ«الدولار»، هذا البلطجي الأمريكي الجنسية، الذي ما عاد فتوات «أولاد حارتنا» في رويات نجيب محفوظ قادرون على التصدي له، أو ردعه، فقرروا الاستسلام لفتونته، فـ«فوق كل فتوة يوجد مّنْ هو أكثر فتونة منه».. يدفع عليش فاتورته المضاعفة وقبل أن يتغير لون دمه الرقراق يُقلب في أوراق قانونه: نضعها تحت بند «زيادة في المرتب لم تأت، أو مبلغ اقترضه صديق ولم يرده، أو فسحة جميلة أعتبر نفسي خرجتها، أو زيادة في المصاريف طلبتها أم العيال وإن لم تطلبها».

تعجب الرفقاء من نظرية عليش، وسأله أحدهم: «دي حياة.. كده أنت عايش؟!»، فأجاب: «بعتبر نفسي ميت.. فقد مات مّن هم أفضل مني في مواقف كثيرة كنت أحسب نفسي فيها ميتًا».